مَن ملاك؟؟
ساقتني الاقدار الى هنا؛ فوجدت نفسي بين حنايا إحدى بيئات هذه المعمورة،أتكىء على صخرة عظيمة شامخة ، وعلى مد بصري بحر جميل يتزين برداء أرجواني لامع حاكته أشعة الشمس الخجلة ، فاصفراء تبدو وكأنها تلوح بيدها لتقول : وداعا ، ألقاكم غداً إن شاء الله ...
أما الرداء الأرجواني ، فيضم بحراً هادئاً .. ساكناً .. خاملاً .. وربما خامداً .. وفي ظل هذا الصمت الباهر، مر بي نسيم عليل صافح أذنيّ هامساً فيهما : لا يغركِ هذا السكون فربما يكون ستاراً تقطن خلفه مآسٍ واوجاع وهموم ...
أوقع كلامه وقعا غريباً في نفسي ،
ولا أدري أقدماي تحركت وحدها ، ام بعِثت داخلي رغبة انجبت هذه الحركة ؟؟؟ ..
مهما كان الامر ، ها أنا أسر على الشاطىء وأقترب من الغامض رويداً رويدا ، لكنني توقفت فجأة ، ادهشني حال تلك الطفلة... طفلة في عمر الزهور ، أو دعوني أقول الزهور في عمرها لكي أكون أكثر عدلاً ، ينسدل شعرها الذهبي على كتفيها الرقيقين ، وترتكز يداها المكتوفتان على ركبتيها المتلاصقتين ، ويرقد جبينها على يديها الناصعتين ..
رغم دهشتي... اقتربت منها .. جلست بجانبها فلم تعرني اهتماماً ، أو ربما لم تشعر بي .. أخذتُ احرك الرمال بيدي ، وقدماي تلاعب المياه أملاً بلفت انتباهها ، فلم أحظَ بذلك ... عدها أيقنتُ انها تعيشُ في عالم اخر تلفه ظروف خاصة... وضعت يدي على كتفها وقلت: البحر جميل، أليس كذلك يا حبيبتي ؟؟؟ رفعت رأسها ، فوقع نظري على عينين زرقاوتين كحبات اللؤلؤ ، لكن الدموع تذبلهما ، وتخط مجارٍ على وجنتيها الصافيتين ... تجاوزتُ المنظر وسألتها : ما اسمك؟؟
ــ ملاك ــ
صدق من سمّاكِ ما بكِ يا احلى ملاك ؟؟ ..
لم تجب ؛ فزاد اصراري على معرفة حكايتها ، قلت: إن باستطاعة شفتيكي صنع ابتسامة فريدة ، فما الذي يغيبها ؟؟
عندها .. وقفت ، غطت وجهها بكفيها ، والتفتت وأخذت تركض مبتعدة عن الشاطئ ، انتفضت وناديتها : ملاك , ملاك ، حبيبتي ، تعالي ... وبعد برهة ، أخذها الظلام فلم أعد أستطيع رؤيتها ..أسرني الشرود وأخذ خيالي ينتج ويخرج احتمالات وتوقعات عن حكاية ملاك ...
لم يقطع شرودي سوى هدير الماء ، فقد تحرك الغامض أخيرا ، التفت إليه ، فإذا بموجة تتقدم خطوة نحو الشاطئ وترجع أخرى .. لكن ها قد زارت الشاطئ أخيرا ، وبسرعة عادت إلى عباب البحر ، وقد خطت على الرمال اسم " ملاك " .. تملكني عجب أكبر ..ثم .. ناداني صوت من أعماقي أن قد حانت الفرصة والأقدار تتهيأ لمعرفة ما تودين .. هيا ..
نظرت إلى البحر .. فإذا بالموجة تبدأ بالتلاشي ، ناديتها : أرجوك انتظري .. ــ ماذا تريدين ؟؟ ــ ما رأيك أن تنسامر قليلا ؟؟ ــ ممم موافقة .. ، علت من جديد وتقدمت نحوي ، بادرتها بالسلام وقلت : أصحيح أن موجات البحر تحمل قصص الناس وحكاياتهم ؟؟ ــ نعم وتحمل أفراحهم وأتراحهم ، ابتساماتهم ودموعهم ..ـــ وأنت ؟ أحكايتك ملاك ؟؟ ــ أنا موجة ملاك الملاك ، عنواني الألم ، طولي القلق ، وعرضي المعاناة ـــ لماذا ؟؟ ــ لأنني موجة ملاك ؟؟ ــ ما قصة ملاك ؟؟ ــ ملاك ، منذ زمن اعتدت ووالدي الكبير أن نتقبل ملاك برفقو والديها وأختها الصغرى نور ، اعتدنا على أصوات الحك وأثير السعادة ، على اللعب والسباقات ، على المشاحنات البريئة بين الشقيقتين ، على قلب أمهما ينبض بهما ويدي والدهما تحملانهما وكأنهما روحه وقلبه ..
ــ إذن ، لم الحزن ؟؟ ــ ذات يوم ، فوجئت بمجيء الشقيتين وحدهما ، وكانت ملاك تقبض بيد نور بصورة مدهشة ، جلستا متلاصقتين وقد غاب الضحك واللعب , وزالت المشاحنات والسباقات ، عم السكون وخيم الهدوء ،، سألتهما : أين بابا وماما ؟؟أمطرت دموعهما دمعا ، ثم خلعت الكبرى ثوب الصمت وأخبرتني بالمأساة .. كانتا تلعبان بالحديقة كعادتهما .. سمعتا أصواتا فخافتا وعادتا إلى المنزل بسرعة ، المنزل الذي تحول فجأة إلى ألسنة حمراء ملتهبة ، علت سحب الدخان الأسود ، وتحول صوت سيارات الإسعاف والإطفاء الذي كانت نور تسمعه في برامج الكرتون لواقع ، واقع مؤلم .. سرق ماما وبابا وحولهما لجثث هامدة لا حياة فيهما .. ذهبا وذهب معهما كل شيء سوى شريط من الذكريات التي باتت مؤلمة قاتلة ..
اغرورقت عيناي بالدمع ،، وسألت الموجة ملهفة ؟ وأين نور ؟؟ ــ نوور ، خطفها شبح فتاك من أمام عيني ملاك ، شيء اسمه " ثرطان " كما قالت لي ملاك .. وقد تحول مكان نور إلى فراغ مظلم زاد حياة ملاك خوفا وفزعا .. فبقيت ملاك تائهة حائرة ، تزورنا كل يوم .. ربما آملة بإيجاد أحدهم ، أو راغبة باللحاق بهم ..
عادت الموجة أدراجها إلى البحر واندمجت فيه .. أما أنا فاستولت علي الصدمة ، ولم أوعَ إلا على صوت أختي الصغرى "أمل " وهي تهز كتفي وتقول : هيا استيقظي .. فتحت عيني ّ ، قالت : هيا هيا ، سنذهب للبحر اليوم .. قلت : وملاك ؟؟ فأجابتني : مَن ملاك ؟؟؟
بقلمي : بشرى النبابته